ملامحُ شتاءٍ بدأنا نشعرُ بها، وستائرُ بيوتِنا قد بدأتْ تتحرك، وأُوصدتْ الأبوابُ، فالجوُّ باردٌ جداً، إذْن دخلَ الشتاءُ.
فيا أيها الصحبُ: إحرصوا على تدفئةِ أجسادِكمْ، كيلا يُصيبَكم شيءٌ من زكامٍ أو حُمّى.
فقد كان عمرُ بنِ الخطابِ رضي اللهُ عنه إذا حضرَ الشتاءُ يكتبُ الوصية: إنَّ الشتاءَ قد حضر، وهو عدوٌ، فتأهبوا له أُهبتَه مِن الصوفِ والخِفافِ والجواربِ، وإتخذوا الصوفَ شِعاراً ودِثارا، فإنّ البردَ عدوٌ سريعٌ دخولُه، بعيدٌ خروجُه.
أحبتي: ها قد عادَ الشتاءُ، وعادتْ لياليهُ الطِوال، عادتْ ليالي الأُنس ِ بمناجاةِ الربّ، ففي أيامٍ خلتْ كانت وجوهُ الصحابةِ رضوانُ اللهِ عليهم تتهللُ فرحاً بمقدمِ الشتاء، فالشتاء ربيعُ المؤمن، طالَ ليلهُ، فقامَه، وقصُرَ نهارُهُ، فصامَه.
يقولُ عمرُ رضي الله عنه: الشتاءُ غنيمةُ العابدين.
فلطالما انتظرَهُ المُشمّرون، وإشتاقَ إليهِ المشتاقون، ناموا، حتى إذا خلدتْ البشرُ إلى منامِها، وسكنَتْ الأرواحُ من حولِها، إستيقظوا مُنسلِّينَ خفية، مودّعينَ فرشَهَم الدافئة الوثيرة َ إلى حيث ُالماءِ الباردِ، ليُسبغوه على أبدانِهم متطهرين، يرجون به نورا يستضيؤون به في مسيرِهم يومَ القيامة، ويتميّزون به عن المنافقين، وما خففَ عنهم ألمَ الماء ِ البارد ِ إلا ما إستيقنوه مِن بشارةِ نبيهم صلى الله عليه وسلم بأن إسباغَ الوضوءِ على المكارهِ هو مِن كفاراتِ ذنوبِهم.
ثم يمضون ليُشعلوا مدافئَ الشتاءِ قُربَ مصلياتهم، فيقفوا طويلاً بين يدي ربِّهم مناجين مخبتين، بعدما علِموا أنّ مَن أطال الوقوف في الليل مناجيا ً الله تعالى، هوّنَ الله عليه طولَ الوقوفِ يومَ القيامة.
حينها.. تبدأ ُتراتيلُ السحر، وتتنزل ملائكة ٌتستمعُ التلاوات، وتصعدُ صلواتٌ وكلماتٌ طيبات.
وتُسكبُ دموعٌ وعبرات، وتنطرحُ بين يدي ربِّنا الأمنيات، والربُّ عزّ وجلّ يتنزلُ ويسمعُ تلك المناجاة.
فربُّنا ينادي في تلك الساعاتِ الأخيرةِ من الليل حين: «يتنَزَّلُ ربُّنا تبارَكَ وتعالى كلَّ ليلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنْيا، حينَ يَبقى ثُلثُ الليلِ الآخرُ، يقولُ: من يَدعوني فأستَجيبَ لَهُ؟ مَن يسألُني فأُعْطيَهُ؟ مَن يَستَغفرُني فأغفِرَ لَهُ» متفق عليه.
ياااالله..
أيُّ لحظاتِ قرب!
أيُّ لحظاتِ طُهر!
أيُّ سكينةٍ ودفء!
تمضي الساعاتُ خفيفة ً لذيذة ًعلى من قامَ الليل، يجلسُ في مصلاهُ حتى الفجر، فيبدأ ُ نهارٌ تتراكضُ فيه الدقائقُ والثواني وكأننا نلهثُ على عجلةٍ مسرعةٍ، فما نكادُ ننتهي مِن قراءةِ أذكارِ الصباح، حتى نشرعَ في قراءة ِأذكارِ المساء.
هذا هو نهارُ الشتاءِ السريع، وهذهِ هي لياليهِ الطِوال، فالشتاء هو الغنيمة الباردة
ف للهِ ما أسهلَ صيامَ أيامِه، وللهِ ما ألذَّ قيامَ لياليه.
ولابد لِمن لم يعتدْ على ذلك أن يتحلّى بالصبرِ والمجاهدةِ، وقهرِ شيطانِهِ الذي ما إعتادَ أن يقهرَه، فقد وعدَنا اللهُ سبحانهُ وتعالى على مجاهدةِ أنفسِنا أجراً عظيماً فقال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت].
وهل الهدايةُ إلى سُبُلِ الله أجرٌ يسير؟؟
فكمْ فوّت علينا الشيطانُ مِن طاعةٍ حين خيّلَ إلينا أنها ثقيلة.
وكم فوَّت علينا مِن غنائم، حينَ أغرانا في ليلِ الشتاء بملءِ ِ بطونِنا بالطعام، وأشغلَ فكرَنا ب الدنيا حتى خلدْنا إلى النوم،
ثم ثقُلَ علينا القيامُ والعبادة بعد ذلك!!..
نعلمُ أن ليلَ الشتاءِ شاقُّ على النفوس ِ لسببين:
= أولهُما: تألُّمُ النفسِ لقيامِها من الفراشِ الوثيرِ في شدةِ البرد.
= ثانيهُما: الماءُ باردٌ جدا فكيف نسكُبهُ في آخرِ الليل على أطرافِنا!
ولكن يقيناً بأنَ الأجرَ يعظُمُ مع المشقة، نتركُ الفراش.. وإستشعاراً للأجورَ التي ُتصبُّ علينا حينَ نصُبُّ الماءَ الباردِ على أطرافِنا، نسكُب الماءَ بِرضى.
هنا فقط.. يهونُ علينا كلُّ ألم ٍ وتعبٍ.
أحبتي:
كم هو رائعٌ هذا الشتاء، وخاصةً في بكوره، حين نستنشقُ النسماتِ الباردة ِ مسبحة ً بحمدِ الله، وتشاركُها الطيورُ منشدة ً أروع َ التسابيح، ونحن نحتسي قهوتَنا نبتغي الدفء، ونُتمتِمُ بأذكارِ الصباح.
وللمساكينِ والفقراءِ في الشتاءِ همُّ يقضُّ مضاجعَنا، حين نتذكرُ مبيَتهم في العراءِ بلا مأوى يسترُهم، أو لباسٍ يُدفئُهم، أو طعامٍ يسدُّ جَوعتَهُم، فنحمدُ اللهَ الذي أنعمَ علينا بمأوى آمن، ولحافٍ دافئ، وطعامٍ زكيّ ٍ، فنجدنا نسارعُ لنتصدّقَ عليهم، ونقومُ بذلك لأننا قرأنا قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا*إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا*إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا*فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا] [الإنسان:8-11]، و يا لذلك الثواب!
أيها الأصدقاء
جميلٌ هو الشتاء، على الرغمَ من تقلُبنا فيهِ، ما بين حُمّىً وزُكامٍ وبرد، إلا أننا نوقِن أنّ المؤمنَ يؤجرُ على الشوكةِ يُشاكُها، فيهونُ علينا ألمُ المرضُ وإنْ كان ثقيلا.
شتاؤنا نعيشُه كروح ٍ واحدة، إنْ مرِضَ بعضنُا، دعا له الآخر، وإنْ ضجِرتْ نفسٌ، ذكّرتها نفوسٌ أخرى بأجرِ الاحتساب: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر]، فمرضُ المؤمن هو تكفيرٌ لذنوبه ورفعة ٌ لدرجاته.
و حينَ مرضتْ أمُ السائب، سألها النبيُ صلي الله عليه وسلم: «مالكِ يا أمَّ السائب؟» فقالتْ: الحمى، لا بارك اللهُ فيها، فقال لها رسولنا صلي الله عليه وسلم: «لا تسُبي الحُمّى، فإنها تُذهبُ خطايا ابنَ آدمَ كما يذهبُ الكيرُ خبثَ الحديد» رواه مسلم.
فالحمدُ للهِ على أجورٍ ليست إلا لمؤمن، والحمدُ لله على ثوابٍ عظيمٍ يُقابلُ عملاً يسيرا.
و الحمدُ لله على الشتاءِ الذي يُسهّلُ لنا عبادةَ الصوم وقيامَ الليل، وأشياء كثيرة.
ففي الشتاءِ ألفُ حكايةٍ وحكاية لو تأملتها قلوبُنا بصدق.
في الشتاءِ: صدقاتٌ خفية ٌ نحنُ عنها غافلون.
وفي الشتاءِ صالحون يصومون، وعابدون يقومون، ومتصدقون يُعطون، ويبذلون.
في الشتاءِ: غنائمٌ وأجورٌ لِمن جدّ وسعى إليها وأقبل.
يا صحب:
طابت لياليكُم الشاتيةُ عامرةً بالأجورِ والخيرات.
فلنعزمْ النيةَ مِن لحظتِنا هذه ركضاً إلى إسباغِ وضوءٍ، وقيامِ ليل، وصيامِ نهار، وصدقةٍ على المساكين، وعبادةٍ تتلو عبادة، فإنّ أحدَنا لا يدري متى ستنتهي فرصته في جمع ِ الأجور: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر].
فلنتسابقْ ولنتنافسْ، والسابقونَ السابقون.
الكاتب: أمل الشقير.
المصدر: موقع لها أون لاين.